القصة القصيرة جدا

هبّة

نام على ضيم واستيقظ على إدقاع، لعن في همهمة هذا العوَز الذي يضرب أطنابه أينما جال بصرُه في هذا الجحر الكئيب، مد يده إلى كسيرات خبز متناترة على طاولته الكسيحة، هوى بها نحو معدة فارغة، حمل سلته ومعوله وقصد موقف العمالة المياومة متمنيا أن يجود يومه بما ضن به أمسُه، مر عبر الأزقة المتربة، أطفال شبه عراة نصف حفاة يخوضون مواجهات وهمية أزلية بين عسكر وحرامية، يملأ ضجيجُهم المكان، عجائز يغزلون الزمن المثقوب ويغرفون من همْر ذكريات مستهلكة حدَّ الشحوب، تفادى بصعوبة صبيبَ ماء قذر يسيل من مزراب متآكل، لعن هذه الحياة الشظفة مرةً، ولعن ألف مرة هؤلاء الفقراء الذين استسلموا لهذا الموت البطيئ دون أن يرفعوا ولو أصبعَ رفضٍ أو احتجاح، شراغيش ميتة في بِركة عطنة، هكذا تخيلهم وتابع سيره الوئيد، وصل الموقف، عشرات مثله ينتظرون، جلس القرفصاء، تزاورت عليه شمسُ هذا النهار الكسلى، امتلأ كأسُ يأسِه، لملم شظايا كآبته وتوجه صوب وسط المدينة، سمع هديرا يهز الحنايا والجوانب، لمح شباناً يلوحون بقبضات متوعدة وتصدح حناجرهم بهتافات وشعارات اقشعرت لها طبقات جلده الخشن: “نحن لانقبل الهزيمة نحن نرفض الانكسار مصيرنا بيدنا ونحن نملك قدرنا” حملته الشعارات بعيدا وبملء قهره المنيخ راح يردد ويردد وقلبه يتربع على قمة الانتشاء: أخيرا سيُطرد الفقرُ وتتغير الأوضاع على يد هذا الشباب الأبي! تجاوزوا أطراف المدينة لاح له بناء ضخم يسبح في سحابة ضوء غير طبيعي، ظنه مقرَ البرلمان وأنه مقتحَم بلا ريب، رفع عقيرَتَه أعلى فأعلى، استغرب الدخول السلس صعد الأدراج، تبعثرت البقيةُ الباقية من كرامته على المستطيل المعشوشب.

السابق
الديكتاتور
التالي
أمنية

اترك تعليقاً