النص للكاتب منذر فالح الغزالي
نص القصة على مجلة لملمة من هنا
القراءة
المقدمة:
القصة القصيرة حديثة في الأدب بالشكل الذي هي عليه اليوم.فهي أصغر عمرا من الرواية، بدأت قواعدها تترسّخ في منتصف القرن التاسع عشر ، لقد انْبنَت على وحدة الحدث ووحدة الشخصية ، وركّز كتابُها و نقّادها على مسألة السرد وكأنّها التقنية الوحيدة. من المعلوم أنّ السّرد هو البوّابة الرّئيسية التي يدخل من خلالها كاتب القصة إلى عوالمها؛
فهل اقتصر الأستاذ منذر فالح الغزالي في كتابة نصه على استخدام أسلوب سرد تقليدي لضمان تسلسل الأحداث داخل الحبكة؟ وهل التزم بشروط النقاد بخصائصها ومميّزاتها وملامحها؟
التحليل
1)-الإطار الأدبي:
نصّ من جنس القصة القصيرة الحديثة.
وهنا يجدر بي ذكر موجز للفرق بين القصّة والقصّة القصيرة كي نرفع اللبس عن المفهومين: #القصة هي لون أدبي عالمي وجد عند أقدم الشعوب التي تنقل حكاياتها ، و تكون فيها الأحداث خيالية أو واقعية، مثل الرواية…
و قد احتوى القرآن الكريم أيضا على قصص من حياة الأولين و منهم الأنبياء. أمّا #القصة #القصيرة فهي عبارة عن عرض لمجموعة من الأحداث الواقعية عادة ما ترتكز على حوار داخلي أو أمور نفسية يدوّنها القاص عن حادثة معيّنة بطريقة مكثفة تبنى على الإيحاء و بلاغة الإضمار وفن الحذف و الدهشة…وأضفتُ فيما أعلاه لفظة “حديثة” ، يعني شكل القصة القصيرة الحالي، المواكب لعصر التكنولوجيا عصر السرعة بالتكثيف وبالتّخلص من أدوات و أساليب السرد التقليدي.
2)- تصنيف النص والمواضيع التي تناولها:
نصّ ذو طابع اجتماعي ثري بتعدّد المسائل الاجتماعية التي احتواها ولِغوصه في أعماق النفس البشرية التي تخص الفرد والمجتمع و ممارسات السلطان الحاكم.
من أهم الاشكاليات المطروحة :
-خبايا وصراع النفس بين الخير والشر. والخوف من الموت.
– الطبقية الاجتماعية.
-اختلاس الأموال عند بعض الموظفين داخل الادارة.
-نظرة المجتمع الدّونية لخرّيج السجون و تملصّ الناس من مخالطته ،حتى أقربهم إليه، ولو أُثبِتتْ براءته.
-التماسك الأسري و المودة بين الزوجين رغم الظروف القاسية و المشاكل التي تغير سلبيا مسار الحياة داخل الأسرة.
-موضوع الانتظار: دائما الإنتظار يحمل مرارة وحيرة.
وتبقى الفكرة الرئيسية للنص : الديكتاتورية والظلم والقمع السياسي لحكومات لا تؤمن بالديموقراطية و حرية الفكر،
هذه الفكرة تكمن في الحدث الرئيسي الذي ساق باقي الأحداث(التحقيق في القضية الملفقة ،تحقيق اتسم بالبهتان و البطلان، تليه المحاكمة الغير مُنصفة، وكامل الأحداث التي انجرت عنه…)
الموضوع الرئيسي اذا هو عبارة عن التصميم في النسيج، هو الرسالة الأساسية التي يريد بثها الكاتب ، و تنحدر منه بقية الأحداث التي تسمى عادة أحداثا ثانوية وقد حزّ في نفسي في هذا النص الثري، نعتها بثانوية لما لها من أهمية من حيث عمق المعنى و من حيث مساهمتها الفعالة في نسيج و سير السّرد.
وقد اختار الكاتب لمقطع حادثة التهمة و المحاكمة مكانا ساطعا في الشكل العام للقصة: توسّط النص فتشظّت نتائجه في كامل مواقعه، أليست المحاكمة هي السبب و كل الأحداث التي طرأت على حياة “المعلّم-الحارس” هي النتيجة!؟.
3)-بناء النص و السردية/أسلوب السرد:
– #الاطار الزماني: بتقنية الاسترجاع، صار لدينا زمن حاضر تدور فيه الأحداث و فترة زمنية ماضية يسرد الكاتب أحداثها.
– #الإطار المكاني: لقد فصل العنوان في مسألة مكان أغلب الأحداث : “المقبرة”.
ثم بالاسترجاع يرسلنا القاص الى مركز التحقيق في القضية.
وبالاضمار يأخذنا إلى بيت الحارس حيث تقبع في فراشها زوجته المريضة و الوفية.
– #الشخصية الرئيسية: رجل التعليم النزيه ذو الأخلاق الحميدة الذي صيّرته المظلمة “حارس المقبرة”. سنعود لتحليلها لاحقا.
4)- حركة الأفعال وزمن القصّ والحبكة:
ينطلق النص بسلسلة أفعال مصرّفة في المضارع(“يرنّ، يختلط، يرفع…”) تدل على أحداث تروى في الوقت الحالي وتفيد الوصف،وصف الحركات، و وصف المشهد الأول والجو العام: رجل عجوز في غرفة ضيقة يسودها برد و صمت ماعدى “صفير هواء”.
ويواصل الكاتب استخدام المضارع في عدة مواقع من النص قصد الوصف .أما بالنسبة للأحداث فقد اعتمد القاصّ على افعال مصرفة في الماضي، أفعال منتهية. هذا بالنسبة للزمن السردي، أمّا بالنسبة لزمن القصّ فقد تخلى الكاتب عن السرد الخيطي المُملّ ودخل بنا في عوالم القصة بمختلف فتراتها بوسيلة تكسير توالي الزمن السردي، فنراه يترك مستوى القصّ الأول(رنة الهاتف، تأخر الجنازة، تفكير الحارس في الاستحواذ على القبر….) ليسترجع أحداثا ماضية يرويها في لحظة لاحقة لحدوثها، بحيث سافر بالقارئ إلى الماضي حتى يعرّفنا بالشخصية:- تبين أنه المعلم المتفاني في عمله التربوي-
وحتى نستكشف علاقتها بالأحداث الحاضرة. والمذهل هو أسلوب القاص في جعلنا نتنقّل بين الأحداث دون أن نشعر فهو لا يستخدم أدوات الربط الزمنية مستعينا بالتنقيط الموحي ك الثلاث(…) نقاط و الايحاء والاضمار وأحيانا يلجأ إلى رونق الحذف أو نفي حدث مثلا: “لا يرى جنازة ولا يسمع صوت قرآن” لقد برع الكاتب من جعل حدث لم يحدث حدثا مهمّا في انصهار الأحداث،
الجنازة لن تتم والقبر سيبقى شاغرا؛ غابت الجنازة و حضرت فكرة الاستحواذ على القبر.
كما أنّ القاص أدخلنا إلى ما يدور في مخيّلة الحارس من خيال شيطاني عبر وسيلة بسيطة ولا تخلو من الجمالية:جُمل استفهامية يخاطب بها نفسه(“ماذا لو…و ماذا لو…”)
فماذا لو يواري سوأة القبر و يستحوذ على الفائدة التي ستأتي منه كما فعل من سبقه!؟
-و يواصل القاصّ استخدام أداة تكسير الزمن بالاستباق: فقد اعلن ضمنيا وقوع الموت و وصف وصفا دقيقا لحظة الاحتضار (“وجهه محمرّ مزرقّ كما لو أنه يسمع حكم اعدامه “/ “خاف من شيء لا يدركه”! أليست فكرة الموت التي حضرت تدعوه الى الحفرة فبدا خائفا ؟و هاربا منها؟إنه يتمنّع عن رؤية الحفرة:”لايريد أن يرى الحفرة” لكنّ جسده
لا يطاوعه… يهبط”… أليست عبارة “صمت مطبق و ظلام دامس” اسقاطا عن صمت أنفاس الحارس؟
-ويعود القاص إلى ذكر شخصية للمرة الثانية: الزوجة، ذكرها في البداية وهو قلق على صحتها وذكرها في النهاية “…يخبر زوجته أنه لن يستطيع العودة الليلة” فقلقت هي عليه واتصلت لكن بقي اتصالها دون ردّ…! وقد ترك القاص المجال للمتلقي أن يدرك ضمنيا، أنها هي من كانت بالخط .
إن قلق الزوجين على بعضهما يدل على التماسك الأسري فالزوج ساعة احتضاره لم يكف عن التفكير بزوجته ، كما هي لم تتخلّ عنه عندما فقد مركزه الاجتماعي و رجولته من تأثير التعذيب داخل الزنزانة.
– #الوصف و #المشهدية المسرحية:
-أولا: أدوات الوصف التي أستعملها القاص:
*النعوت: النص زاخر بالنعوت التي وصفت الشخصية وصفا ماديا (عجوز ، مشية بطيئة، هيكله ضعيف و بجسمه عاهات…)، وصفت الطقس:(بارد وسماء رمادية…)، و وصف المكان والقبور بالموحشة…وبعض الأوصاف استعملت لغاية في نفس الكاتب مثل النعت الآتي: “قابعة” للتقليل من قيمة الغرفة او قبور بسيطة وأخرى مزخرفة، قصد المقارنة واظهار الطبقية الاجتماعية حتى في أصناف القبور واختيار مواقعها، فنجحت هذه الاسقاطات في ايصال الفكرة المرجوّة للمتلقي.
*أفعال الإدراك: لقد تجول الحارس بكل حواسّه في المكان فجعلنا الكاتب نشعر بلهفة انتظاره للجنازة تليها تمنّيه بِأن لا تتمّ.
*الحقول الدّلالية( les champs lexicaux): (كلمات ذات الصّلة في المعاني):
ولعل ابرز حقل دلالي استخدمه الكاتب هو ذاك الذي يخص الطقس الحزين و الجو الجنائزي للمكان لما فيهما من تطابق “contigüté “مع نفسيّة الحارس الكئيبة اليائسة والمضطربة ” ضباب كثيف يملأ رأسه”/ (” سماء رمادية، غيوم ثقيلة، هدير رعد، غرفة باردة و مقبرة موحشة….”)
المقبرة الموحشة والطقس الشتوي المكفهر عنصران يشبهان كآبة و ضجر المدرّس المحكوم عليه بالسجن، والمنقول الى وظيفة بسيطة حقّرته، صغّرته، انهت آماله و جعلته قابعا بين القبور حتى صارت أمنيته الوحيدة هي كسب قبر لائق على الأقل بالمدرس البارّ النزيه الذي كان ينتظر الصعود في سلم المقامات، ويأمل اقتناء بيت يليق بمدرس محترم؛ وكلٌّ يتمنى على قدره. فطال انتظاره وما وجدناه ينتظر إلا موته بين حيطان المقبرة المسلوبة من كلّ روح…
فعلا لم يسعفه الحظ من اقتناء بيت فاخر فكان من نصيبه قبر لائق ، أليست هذه من سخريات القدر؟
كل هذه الأوصاف وردت من خلال وصف ثابت ” statique ” وجعلتنا نتخيل و نرسم بدقة لا فقط المكان و الشخصية بل حتى تطلعاتها الواهية، الهاوية في أقاصي روحه المنكسرة..
-ثانيا: وصف الشخصية الرئيسية وصفا ديناميكيا : “dynamique.” فلننظر معا إلى هذه العبارات:
“صالب يديه خلف ظهره ومضى يجرّ جسمه المنهك”
“يجرّ قدميه الزاحفتين”
“حدّث نفسه وهو ينظر الى الساعة”
“ارتجف بشدة و أغلق باب الغرفة و جلس على فرشة الاسفنج…”
“يتحسّس أنفاسه، يلصق أذنه بالمخدة، يتأكد من صوت نبضاته.”
هذه عينة من الجمل التي تصف “ديناميكية” الشخصية وكأنها على خشبة المسرح فتارة يستعمل القاص أفعالا في المضارع حين تكون الحركة بطيئة، و طورا يلجأ إلى أفعال الحركة يصرفها في الماضي عندما تكون حركة الحارس سريعة صامتة تتخللها الحيرة، و تزيد هذه الحركات “الإيمائية” (mimique)التي بدت شبيهة بحركات شارلي شابلن في بعض المواقع من النص، في تشويق القارئ: إلى ما ستؤول اليه تحركاته و هو يغدو ويروح بين الغرفة والقبور ؟ ذاك الوصف الدقيق جعلنا نتخيل ارتسامات وجه الشخصية.
أما عن الحوارية فقد ساهمت في ادخال مشاهد مسرحية في القصة من آلياتها المونولوغ monologue الذي أثرته الجمل الاستفهامية -الاستنكارية /وتداخل صوت الراوي مع صوت الشخصية الرئيسية التي شاركت بصفة غير مباشرة في رواية الأحداث. وحين تسللت إلى رأسه تلك الفكرة الخبيثة نطق صوت الشيطان وهو يحرضه على الشر: “ماذا لو حصل ما حصل في تلك المرة!؟…..”اردم القبر…”
ويردّ عليه صوت الخير ليذكره بأنه نزيه: ” هل تنهي حياتك لصّا يا سعيد بعد كلّ تلك القيم” قيم أخلاقية ما فتِئ يلقنها إلى تلاميذه زمن العزّ.(هذه الأصوات الهاتفة فكرتني بصوت هتف لشخصية من شخصيات قصص ميخائيل نعيمة:” قم ودّع يومك الأخير!” في كتاب اليوم الأخير).
كما حضرت خصوصية مسرحية أخرى في هذا النص:
البومرانج (boomerang) حيث أنّ الحارس (كموظف في ادارة الجنائز )جهّز القبر لميت غيره و في الآخير وقع هو فيه.
اذا المشهدية كانت حاضرة بشدّة في هذا النص بحيث آلَ استخدام آليات مسرحية إلى تداخل الأجناس حاملا القارئ الى عوالم مختلفة مما زاد في تشويقه.
*من الايحاءات و الرموز التي شدت انتباهي: لفظة “مواليد جدد” فما المواليد الا أموات جدد، بالفعل هم مواليد جدد في العالم الآخر، وهنا يلمح الكاتب إلى أن في الموت حياة فكلما انتهت حياة ولدت حياة، ففصل الربيع يولد من موت فصل الشتاء وكلما اضمحلت حضارة انسانية تليها حضارة أخرى وكلما سقط حاكم الا وخلفه حاكم آخر، هكذا هي سنّة الحياة! فيَا ويله ذاك الحاكم الذي أكلتْ عقلَه ا”لأريكةُ”، الذي ظلم سعيد العبد الله وجعله تعيسا ، وإنَّ َفِي اختيار اسم الحارس مفارقة بديعة.
5) القفلة:
أمّا عن ادهاش المتلقي في نهاية النص كما هو مطلوب في قفلة القصّ الوجيز ، فقد اختار الكاتب أن يقفل قصته بنفس رنّة الهاتف التي فتحها بها وهكذا يكون قد استعمل تقنية ردُ النهايات على البدايات لتكون آخر رنة هي رنة الموت،
كرّر القاص فعل رنّ ثلاث مرات -وما كل مكرر بليد- لكنه هنا مفيد لأنه أشبع انتظارات القارئ.
الخاتمه:
تفرّدت قصة “حارس المقبرة”
-بالانسلاخ عن الأسلوب السردي التقليدي.
-و بشموليتها التركيبية و التعبيرية فكانت حبكة السرد
محكمة.
-و بكيفية تدخّل شخصية السارد: تدخّله في الحكائية و الحوارية على حدّ سواء .
وكما تحرر القاص من وحدة الحدث فإنّه تحرّر من وحدة االاطار الزمكاني و وحدة الصوت ،عبر تداخل الأصوات، تداخلت العوالم: العالم النفسي (بؤس حيرة خوف وصراع) والعالم الاجتماعي( تطاحن الطبقات و دوس القوي للضعيف)
عالم القضاء الفاسد و قمع الحاكم للمحكوم….وعالم الأموات!
لقد وضّف الكاتب هذه التقنيات الحديثة لتنويع أسلوب السرد ولزيادة ترابط الأحداث التي رتبها حسب ديناميكية تدور في مخيلته.
وهكذا بأدواته المتمكن منها، نجح القاص أ. منذر الغزالي في تمرير أكثر من خطاب أخلاقي ترك انطباعا مؤثرا في ذهن المتلقي.
التقييم:
-ملاحظة أولى:
“للأموات كما للأحياء مراتب، و للقبور كما للبيوت درجات” الا ترون في هذا الكلام جملة تقريرية؟ كان على الكاتب أن لا ينطق ب هذه الجملة فهي قطعت السبيل على المتلقي للتأويل، فلو ترك المجال للقارئ أن يستنتج بنفسه أن أنانية البشر و حبّه للمقامات الشامخة وحبه لذاته تتبعه الى القبر، لكان أجدى.
-الملاحظة الثانية:
من وجهة نظري أن المقطع الذي سيأتي ذكره لم يُضِف الكثير من: ” ولكن بعيدا عن التعليم….إلى حارسا في هذه المقبرة”
بما أنّ المتلقي فهم سالفا ما هي علاقة المعلم بالحارس(نفس الشخصية)قبل قراءة هذا المقطع ،ما كان على الكاتب أن يدلي بتوضيح إضافيّ؛ كما بينا سالفا أنّ الايحاء من ميزات القّص القصير.
