لست متأكدا من طبيعة العلاقة التي تربطني بقارئي ،بل لست أدري هل أتخندق في حنجرة أحدهم مترصدا لبحة الكآبة التي ترافق أولئك الذين ينبشون عن السعادة في رموش أشباههم ؟ المصيبة التي لا أقدر على مجابهتها هي أن لا أكون متموقعا في أي مكان ، لا بد أن أبعد من خلدي هذا الافتراض ، يرضيني أن أكون عينا لامعة لقط متشرد في ليلة مخيفة ، يختبئ وراء عمود كهربائي مبلل، يرميني الذاهب إلى عمله بنظرة لا مبالاة ثم يمضي ،وددت لو سحقت مع مدادي، و رششت مع المادة الرمادية على تلافيف دماغ قارئ مغرض .. يغريني كثيرا أن أتصوّر هذا .
حينما يقرر أحد رفع القلم ، فإنه يجتر أسطورة رفع أحد العظماء للمسدس باتجاه رأسه ،على الأقل أن صاحب المسدس يجد التعاطف مع شخصه ، و قد ينشر خبره في الصفحة الأولى في أكثر من جريدة ، أما صاحب القلم فلا مفر له من العلاقات المعقدة حتى تنشر طلقاته معزولة عن دماغه المنفجر، بأي صفة كانت و بأي ترتيب يراه المشرفون على الصحيفة ، مراعاة لأمزجة الزبائن المدمنين على أعمدة سجنت عقولهم .
غطسة الكتابة هي بالنسبة للكاتب لحظة الافتضاح الاختياري ، و بالنسبة للقارئ ابتسامة الاستشفاء القهري ، وبالنسبة للأهل فرصة تجرد شجرة العائلة من ورقة التوت الشفافة ، ينتظرها الموتورون ،ليدقوا طبول الحرب على الورود المتبرجة بحياء ، و ليغرزوا مسامير الصلب على سيقان حروفك التي تتقاطر دما مرتوية من أوردتك المتمردة على قلبك الجزوع .
ما هو الإحساس الذي يشعر به شخص حينما يخبره الطبيب أن الجنون ليس بعيدا عنه ؟ هو يعلم أن الطبيب يلطف العبارات متجنبا مجابهته بأنه يضع قدما واحدة على عتبة التطويح في سحابة اللامعقول ،لا تسأل عن القدم الأخرى فهو لا يعرف أين دفنت إلى اليوم ، و لا لماذا بترت ،ربما هي مشلولة جراء جلطة إثر ارتفاع ضغط الحبر ، يضيف له الطبيب أن الأحلام التي يشاهدها ما هي إلا إرهاصات لفنتازيا كسر زجاج المألوف..المألوف يعني أن تكون معنا هنا ، تُسمي أشياءنا بمسمياتها ، و غير المألوف تعرفه جيدا ، و لا داعي لتصديع رأسك به .
معهم الحق أولئك الذي ينظرون إليّ من ثقب الباب و أنا أغتسل بالحبر الأسود، ثم يصفونني فيما بينهم بالمتحذلق ، و يهمسون :
ـ كيف يدّعي هذا الأحمق أنه أحاط بما لم نحط به؟ أو كيف يدعي أنه قادر على وصف أشيائنا الخاصة ؟إنه مغفل ؛يزعم أنه يتجسس علينا ، و في حقيقة الأمر نحن من يتجسس عليه ، نفعل ذلك رسميا ، و برخصة منه ..
ثم بعدما يثرثرون كثيرا ، يصلون إلى الخلاصة قائلين :
ـ من أعطاه الحق لينطق باسمنا؟ ما أوقح تطفله و ادعاءه !
أبدو في هذه الوضعية مقززا كرسوم متحركة مقرفة .
أحترم كثيرا أولئك ، الذين يطوفون على منشوراتي ، فيرتشفون منها ، ثم يرشون بشفاههم في حركة سحرية لطيفة على لوحاتهم الجميلة لتزداد لمعانا ، أولئك هم من ضلت نسائم الصباح عنهم ، و اتتني ، لأنها تفضل أن تمنّ على دميم مثلي لسابق معرفتها أن جمالها سوف يخاصمني ، فأضطر لإخراجه للناس ممزوجا بخيوط حرير الفجر.
عندما أكتب بالفحم على ثلج الصفحة ، فإنني أطلب الدفء لأناملي المرتعشة خوفا من زهايمر جبار آت لا محالة .. أعتذر من التعالي الذي أحس به في لحظة ذروة النشوة، فهو أمر شخصي ، له علاقة بعُقد لست مضطرا إلى شرحها لكم رغم قرابة الحبر.. هل يمكن للحبر أن يصبح ماء ؟ بما أنه ليس كالدم ، فيمكنه أن يصبح كذلك ، بل ذلك هدفه ، حتى تبعث فيه الحياة من جديد ، و يشابه لون الروح الشفافة ، تُمحى حروفه و تسقط بدله دموع العظام .. ما الريح أخشى على أوراقي ، فهي مبللة بريق القلم اللاصق ، و إنما أخشى عليها النظّارات الفاخرة التي تنظر إلى الحرف من فوق بازدراء ..كم تبالغ هذه النظّارات في تأويل بعض مستنقعات الحبر بأنها غسيل للملابس الداخلية ! و للناس الحق في تصديقهم ..
أطمع أن أمشي على الأوراق اليابسة دون إحداث ضوضاء و خشخشة مزعجة لحاملي مقالي ، الذين لا أملك إلا أن أصفهم بالكرام .
ما زلت أعتقد بقداسة الشاطئ الذي بيني و بين أعماقهم مع علمي بأنه ليس شاطئ الأمان،و على الرغم من أنني أتنقل بين أمواجه برجلي الحافيتين ، حتى لا أزعج المصطافين النائمين ، إلا أنني أوصف عند الكثير منهم بالمشاغب ،ربما سمعوا فرقعات عظام أنامل قدمي ، فحسبوها تكسر طبقة الجليد الرقيقة .
هل تصدق أنني ما زلت أتزحلق و أنا في عقدي الخامس ، نعم ما زلت أتزحلق على أوراقي ، لا أبالي بهتافات المتفرجين ضدي ، عزائي الوحيد أنني أرتدي قناعا ، فلا مناص من هذا الأسلوب لجلب الاهتمام ، تماما مثل موظف سام مولع بفن التهريج ، يدخل الركح و يخرج دون أن يكشف هويته ..لقد استوعبت منذ زمن بعيد أن بعضهم يقنع بأن يضحك مع الكاتب ، و إنما يطمع أن يضحك عليه و لو ضحكة بريئة خفيفة ، يصر أن يطبق حرفيا أن العين تعلو الورقة ،لابد أن أكون رياضيا ، و أتقبل منهم كل شيء .
كم مرة نمت و تركت أوراقي مبعثرة ، فمرت فوقها السحلية ، و تركت عليها آثارها ، فلم أستطع محوها ، فأكملت عليها بمعاني قريبة ؟ ! فلم يميز الأقربون بين الأسلوبين ، ترى هل ستصبر حروفي في الالتواء مثل عمر تخبط ذيل السحلية المبتور؟
و الآن هل سأحمل المسدس ؟ أستغفر الله ، أقصد القلم لأكتب حتى أبدو متحذلقا ، أم أتركه لأملأ به كل شهر الصك البريدي لسحب أجرة الشهر الذي لم أعمله بعد .
قاص و شاعر و كاتب