قراءات

بين زمن الحدث وزمن السرد في نص “دمع الأراجيح”

القصة للكاتب عبد الكريم الساعدي

نص القصة على مجلة لملمة من هنا

القراءة

كيف أفكك تراجيديا الحياة بلغة رمادية باردة تتقد من نياح أراجيح معلقة بين الأرض والسماء وبين مطلعي يوم العيد ويوم القيامة؟ الأستاذ عبد الكريم الساعدي يقايض هنا في نصه على لغة السرد كي تقول ولا تحكي ما لا تستطيع اللغة أن تحكيه. أين هو الحدث ؟ وأين هي القصة ؟ وآية تقنية يستعملها الأستاذ في لغة القول من وراء القص؟ الحدث رماد والرماد طلسم الموت الغادر الذي حصد كل شيء في ليلة مقمرة بالأمل بما فيها ابتسامات أطفال وزغاريد وطن كانت تتراقص في عيونهم. فلا قصة تقص ولا حكاية تحكى في النص. لأن الحدث صدمة والصدمة لا تفك طلاسمها بحكي أو بقَص بعد حين. وتلك هي قصة ” دمع الأراجيح” التي تعتمد على تقنية سردية لا زمن لها غير زمن فجاعة الصدمة ذاتها.
١- تقنية السرد بلغة الرماد
يبدأ النص بسؤال يحتوي على غرابتين تتعلقان أولا بملفوظه اللغوي وثانيا بطبيعة علاقته بالسارد له : “- كيف أفك طلاسم لغة الرماد وأستدل عليك؟ “. السؤال يبدو كأنه استهلال لحوار ما بملفوظ لغوي ينفي عنه في ذات الوقت صفة المخاطبة لمرسل إليه. فالسارد له يسأل أو يتساءل من موقع ضمير المتكلم مستعملا ملفوظا لغويا تحمله لغة غير عادية من حيت بلاغية الكلمات التي تتضمنها في إيصال المعلومة، مما قد يوحي بأنه صادر من جوانية حوار أو على الأقل من حوار داخلي. هل هو بالفعل ملفوظ صوتي لسارد له داخل حوار داخلي ؟ وهل الاستهلال به في النص له وظيفة معينة في تقنية السرد؟
فرضيتنا أن هذا السؤال أو التساؤل الاستهلالي يبني النص من أوله إلى آخره ، إذ يعتمد عليه القاص في تثبيت الحدث أكثر من الاعتماد عليه في البحث له عن جواب. لنقل إنه إعادة صياغة لموجود مرعب لا جواب على ما يتضمنه من أسئلة غير النص ذاته.
“- كيف أفك طلاسم لغة الرماد وأستدل عليك ؟”. إنه سؤال أو تساؤل يبدو حينياً للحدث من حيث زمنية ملفوظه اللغوي غير أن أسلوب صياغته البلاغية يخلق تشويشا على مستوى علاقة السارد له بظرفيته الزمنية. فيدفعنا إلى القول بأنه يكتب زمنين في زمن واحد :
١- الزمن الأول :
– زمن الحدث/ الصدمة : رماد الجثة.
٢- الزمن الثاني:
– زمن ما بعد الحدث/ الصدمة : فك طلاسم لغة الرماد.
يتوزع النص إذن على هذا النحو :
١- الزمن الأول :
يبدأ بزمن الحدث :
” – كيف أفك طلاسم الرماد وأستدل عليك؟abdulkarim alsaedi 2
أعزف لحن الدعاء صامتا، مرعوبا حد الثمالة، أسير بخطى حثيثة نحو الموت، نحو الفجيعة، أحرم لمناسك العويل في حضرة الجحيم ورائحة شواء أشلاء الموتى ، في جثت مفحمة، بلا ملامح، وأخرى متشابهة، تشكلت من لحم متناثر، فكان لها طعم واحد، طعم الموت لا غيره.
– أيهم أنت يا ولدي ؟ من يدلني عليك ؟ “.
زمن الحدث هنا هو مشهدية الفجيعة/الصدمة بلغة انزياحية متاخمة للشعري وللإنشائي حيث الكلمات تبدو مبنية على إيقاع وصور موسيقية: أعزف/لحن، دعاء / صمت ، الثمالة / طعم الموت، شواء / أشلاء، فجيعة / جحيم. من أين تجد شرعيتها في ملامسة حدث تراجيدي ؟ ولماذا اختارها الأستاذ عبد الكريم الساعدي ، سواء أكان ذلك هو أسلوبه في كتابة القصة أم لا ؟ الجواب نجده في النص ذاته حيث السارد له يقول : ” مرعوبا حد الثمالة “.
إنه أمام رعب/ صدمة، له مخرجان لا ثالث لهما : حالة توحد أو حالة جنون . الرعب هنا تدمير مباشر لقدرات العقل على تصوره : رائحة شواء / أشلاء الموتى/ جثت مفحمة / لحم متناثر.. لكنه عِوَض أن يتحول إلى حالة توحد أو شيء آخر ويشتغل في الصمت ينقلب إلى ضدّه فيتحول إلى ثمالة تسكر العقل ولغته. إن لغة الأستاذ عبد الكريم الساعدي في القصة هي لغة ما بعد الحدث، لغة جنون كوسيلة وحيدة لفك طلاسم لغة الرماد القابضة على الروح. الرعب لا لغة محايثة له، إنه شحنة تقوض اللغة والفكر وما يأتي بعده ليس إلا محاولة بائسة لتفريغه في لغة ثانية وزمن ثاني له.
٢- الزمن الثاني :
وهو زمن استرجاعي يحاول إعادة حيثيات ما قبل الحدث وسياقه ” في تلك الليلة الغاصة بالمسرات الباذخة بالطيب والصفاء، كانت الأضواء تتراقص في حلة من الألوان البراقة، ممزوجة بفرح الطفولة.(..) الأطفال تحدق في مرايا الأراجيح ، تلوح لهم بذراع من سرور عند طرف الزقاق، مصفوفة بين جذوع النخيل واحدة قرب الأخرى، يغرد الأمل على حبال وصلها كبلبل فتان :
– بابا، متى تأخذني لتلك الأراجيح ؟
– عند مطلع العيد.. سنكون هناك .”
الزمن الاسترجاعي يحاول التمسك ببهجة ما قبل الحدث في لغة حالمة ليضعها في علاقة تباينية مع هول الحدث ولغته الرمادية ، وينتهي بحوار غريب في موقعته داخله، بدون مقدمة أو إشارة . يسقط هكذا كما سقط الحدث:
“- بابا ، متى تأخذني لتلك الأراجيح ؟
– عند مطلع العيد .. سنكون هناك . ”
هو حوار يتيم في النص يؤجج مفعولات الصدمة التي تجد نفسها على شقين : شق صدمة الحدث وشق صدمة ما بعد الحدث الذي يسترجع ما قبله. الحدث ذاته كان رعبا وما يزيد من حدة الصدمة هو فظاعة الأشياء الجميلة التي لن تعود أبدا وفي نفس الوقت نسترجعها كأنها لم تغب أو تمت أبدا : فرح الطفولة. إنها طريقة أخرى في كتابة القصة التي لا تعتمد على منطق الزمن الكرونولوجي أو الموضوعي بل على زمن الحدث وما قبله وما بعده كعناصر متداخلة فيما بينها تعطينا نصا سريالي الزمن في فجيعته. وهذا ما سيتأكد في بقية السرد إلى حدود :
-” أيهم أنت، يا ولدي ؟، هذا..لا، هذا، بل هذا..من يدلني عليه.
يهزه صوت خفي :
– للجثة المتفحمة رائحة واحدة، لا يعرفها إلا الأمهات . ”
من هنا يتحول السرد والسارد له في علاقتهما بالحدث وينفتح على صوت آخر غريب الصياغة : ” يهزه صوت خفي”. صوت لا نعرف ضميره ولا نعرف علاقته بضمير المخاطب، إنه صوت الفاجعة الذي يحيل إلى الأمهات ، إلى الآخر ، إلى تراجيديا حياة مجتمع ، إلى أحلام تسرق من عيون الأطفال وإلى الأراجيح اليتيمة التي تنشد النواح حتى مطلع القيامة.
وهو الصوت ذاته الذي يعطي للنص قيمته من حيث لغة القص التي لا زمن لها غير زمن الكتابة؛ كتابة تتأرجح في تحايل تقني بين الزمن الأول والزمن الثاني ، نفقد معها بوصلتها السردية..

شاركها

السابق
دمع الأراجيح
التالي
عودة

اترك تعليقاً