القصة القصيرة

تعـــالَ ..تنفّــــسْ عِطري

قلبي بات فوهة بركان مستعرة ..المسافة بيني وبينة ثملة لا تصحو أبدا ..أتلو أمنياتي فوق سحابة مجنونة.. من يوصلني إليه .. لديّ أشياء وأشواق وحنين يفيض بهم جبل الصبر ويعانق ذرى المسافات الضائعة ..من يزيل غبار انكساراتي المتتالية ..من يلبسني ثوب الفرح ويزيل عني غبار الصّد ؟هذا الرجل أحبه ولا أستطع نسيانه ..كم يوجعني الانتظار في عتمة ليل لا ينقضي ..لم يعد لحيائي في قوس الصبر من منزع ،سأوقفه وأمسكه من تلاليبه وسأصرخ في وجهه:
__إني أحبك ..إني أحبك هل تفهم ؟
أمواج الخيبة ترقص حافية فوق ألحان حزني المقيم ..بأي وسيلة أتوصل إليه ..متى يقنع أني أحبه ولا أحب سواه ؟ كتبتُ له رسائل كثيرة بعدد دموعي التي سكبتها فوق أزهاري الذابلة ،عارية هي روحي حد الجنون ..أبواب وشبابيك نفسي موصدة تتأرجح فوق ستائرها ريح عقيم ..لم يرد بكلمة واحدة ..كان يمسك بحزمة رسائلي ويمزقها أمامي تتطاير أنفاسي معها في كل الاتجاهات ..بأي لغة سيقنع لو حدثته عن حبي وأشواقي؟ ،أعيتني الحيلة في طلب رضاه ..كنا نعمل في مؤسسة واحدة ..كل واحد منا في قسم ..لا نرى بعضنا إلاّ في نهاية الدوام ..كنتُ أتعمّد أن أدخل إلى مكان عمله بمناسبة وبدونها ..إن غاب عن الدوام تغيب روحي معه.
كم حاولتُ أن أكلمه عبر الجّوال .لم يكن يجيبني قط .
أنهكني السفر عبر مسافات وهمية للقاءِِ لن يتم …أسطورة حبي تناقلتها شفاه الموظفين ..بات كل واحد منهم يعلم بتعلقي به ..هجرني النوم وحكايات ليلي انطفأت تحت عتمة الخذلان،..دائمة الهجرة في عالم الخيال لم أرتبط بعلاقة حب قبل هذا ولم أكن أفكر مطلقا بتكوين أسرة ..هذا الرجل جعلني أعيد كل حساباتي ..هل تسمع يا ترى صوت قلبي ونبضات روحي الهائمة بك هل تسمع صوتي الأبح وهو ينادي عليك ؟متى يمر الفرح من بابي متى يعلن العشق حضوره في قلبك ؟ اتخذتُ قرارا خطيرا كي أضع حداً لمعاناتي وأحزاني.. لن أجعل شفتي ترتعشان أمامه وسأستحضر كل مفردات الكلام معه ..هاهو يسير في الممر لوحده يحمل بيده أوراقا ،يا للجمال ..يسير ألهوينا ببدلته الرمادية تسابقه أمواج عطره الأخاذ.. صحتُ به وصدى صوتي تردده الجدران :
__من فضلك أستاذ مازن ؟!
التفتَ إلى مصدر الصوت ..وقفَ ينظر إلي بعينين جامدتين ..ربما تعّمد أن يفعل ذلك ..كانت عيناه بلون الرماد كلونِ بذلته تمتم :
__ نعم ..تفضّلي يا آنسة ؟
صمتي يعلن انتصاره ولساني يكاد أن يفقد البوح ،غادرتني الكلمات وانتفضت أعضائي لترتجف ..اتكأتُ على جدار النافذة المطلة على الحديقة ..أخيرا نطقَ لساني :
__أستاذ مازن ..اسمعني أرجوك ؟
__باختصار ..لو سمحتِ؟
__لا أعرف من أين أبتدئ …لو تعلم يا أستاذ مازن.. كم أنا …تنطلق الزفرات والآهات من فمي دون كلمات ..ساد صمت لا هث بيني وبينه ..لملمتُ جراحاتي وقلت له :
__أنا أحبك يا رجل ..هل تفهم أني أحبك ؟
نظرَ إلي بازدراء وعدّل من وضع الأوراق التي بيده وتمتم بصوت كنت أسمع منه نبرة حزن عميقة :
__أرجوك لا تفكري بتلك المسألة .سأنسى أنكِ قلت لي هذا الكلام …عن إذنك ؟
سأبكي طالما كانت في عيني دموعا رخيصة ..سأسكبها على مذبح الحب وأهمس لروحي .كفاك إذلالا ..
أوراق خيبتي سأعلقها على جدران الذكرى.. سأصرخ بملء فمي تبا للخنوع تبا لحياتي التافهة ..من يعينني على النسيان ؟..أجدبت روحي وتغافل عنها المطر .. غربان الخيبة دفنت آمالي بعباءة الليل الموجع .. يحملُ نهاري عبئاً ثقيلاً من صهوات لجياد خسرت الحرب ،لا لن أخسر حربي .إنها معركتي ولن أستسلم ..انه يحبني ولكنه يتصنع الجفاء واللامبالاة ..تعال تنفس عطري ..تعال قف أمامي ..مد يدك وضعها تحت خصري ..ضع يديك في يدي ..تعال لنتعانق ..لقد حطمّتْ فؤادي نظرات الشامتين ..آه لو تعلم كم أحبك؟
..حانت الفرصة التي كنتُ أحلم بها شاهدته في صباح اليوم التالي ..رأيته يدخل إلى القسم مبكرا ..نزعَ سترته ووضعها فوق مسند الكرسي ..نظرتُ حوالي …كانت القاعة فارغة .وأصوات الموظفين أسمعها من بعيد ..دفعتُ الباب ودخلتُ عليه ..فوجئ بدخولي ،نهض من مكانه ..رأيته يبتسم لي ..لأول مرة تنم ملامحه عن ارتياح وحبور ..وقفت كتلميذة صغيرة أمام أستاذها ..شبكتُ أصابعي مع بعضها فوق بطني ..تقدم مني وأمسكني من كتفي بتؤدة وقال لي :
__عودي إلى مكانك يا آ نسة ..من فضلك ؟
_لن أذهب من هنا .
_من فضلكِ .قبل أن يروكِ معي .
_لابأس.. سأذهب من هنا ولكن عليك أن تعرف.. كم أني أحتقرك ..وأنك جبان عديم الشخصية ..بدا صوتي يرتفع وارتعشت خلجات وجهي ..وجدتُ نفسي أصرخ به بكل ما أملك من حنق ..داهمتني نوبة انتصار غمرت نفسي المهزومة ..لأول مرة أشعر أني قوية وإنني جميلة وجذابة والكثير من زملائي يتمنون ودّي ووصالي :
__أنتَ لا تستحق حبي ..جعلتني أندم على كل كلمة كتبتُها لك من دم قلبي ..ما أنت إلاّ نكِرة وحقير .
فجأة دخل الموظفون دفعة واحدة ..أثارهم منظرنا ونحن نقف وحيدين ..وقد سمعوا صراخي ..جلسوا على مقاعدهم وأعينهم تثقب وجهينا ..كانوا ينظرون إلينا باهتمام ..كأنهم يتفرجون على حلبة لصراع الديّكة ..لم أكن أهتم بشأنهم ..تجاهلتهم تماما ..كل الذي يعنيني هذا الرجل الذي يقف أمامي حائرا مضطربا ..يرمق زملاءه بعينين خجلتين ..تركني وخرج حاملاً سترته بيده ..سمعتُ همهمات الزملاء وضجيجهم خلفي ..خرجتُ من القاعة بعده بدقيقة واتجهتُ صوب محل عملي ..خطواتي المتعثرة لها صدى في الممر الطويل ودموعي تتسارع على خدي بلا رقيب ..الشمس الربيعية تصفع وجهي بخجل …الضوء المتساقط عبر الواح زجاج الممر تتشكل على هيئات مختلفة ..عمود الضوء القريب من الجدار يقف منتصبا كجسد فزاعة في مزرعة مليئة بالأحراش والحشائش اليابسة …سمعته ينادي عليّ ..لم أصدق أذني.. إنه يناديني ..لم التفتُ إليه وحثثت الخطى نحو الأمام ..سمعتُ وقع خطواته تتسارع خلفي ..سمعتُ صوت لهاثه يمزق شغاف أنفاسي صاح :
__لمياء ..توّقفي أرجوكِ ..اسمعيني …لمْ أستكن وأسرعتُ أجري بما أملك من عزيمة وإصرار على الجري ..خطواته تلاحقني وخطواتي تتعثر بأذيال انتصاري المرتقب .. أمسكَ بذراعي وضمّني إلى صدره وأنفاسه تمتزج بأنفاسي .. في خطوة أشبه بالجنون ضمني إلى صدره بكل قوة ..عانقني طويلاً.. لم أكن أحسب حسابا فيما لو يشاهدني أحدهم الآن وأنا أغفو على صوت لهاثه وهو يضمني بشوق ..لا أرى من الموجودات سواه ..تلك الجدران التي تضيق بنا انفتحت وأخضرت الأحراش الذابلة من خلف الزجاج ..عيناي تبصرانه هو لوحده.. نحن الاثنان معاً نقتفي أثر الرغبة ونمحو آثار البعد.. نختصر مسافات الوجد الممتدة على أفق الفراغ .

السابق
أصـابع مريم
التالي
تحوّل…

اترك تعليقاً