منذ أن بشّرنا الطبيب بحَمل زوجتي في جنيننا الأول، والكل في فرحةٍ عارمةٍ، من اللحظة الأولى بدأت المناوشات اللذيذة المعتادة، أهل زوجتي يريدون المولود بنتًا جميلة كالقمر، وأهلي يتمنونه ولدًا يكون سندًا لأبيه.
أمّا أنا فقلتُ: كل ما ينعم به الله علينا خيرًا، لم أستطع البوح بأُمنيتي، لأنّي لو أفرجتُ عمّا بداخلي لبكيت ولأبكيت الجميع، فكل ما أتمناه مولودًا سليمًا معافى لا معاقًا مثلي؛ حتى لا تُصبه سهامُ الناس الجارحة، ويُرحم من مشاعرهم الباردة الخالية من الرحمة، وتجاهلهم وجودنا معهم في نفس الحياة.
لا أريد لمولودي أن يعيش بوجهين، مرتديًا قناع الرضا والصبر على قضاء الله أمام الناس، ساخطًا صارخًا بآهاتٍ وصرخاتٍ مكبوتةٍ أمام مرآته.
فمنذُ صغري وأنا مُكبّلٌ بقيود المحذورات والمحرمات، لا أخرج، لا ألعب، لا أمتلك حرية مَن هم في مثل سني، كل ذلك لأنّي مُعاقٌ بشلل الأطفال، أولدتُ هكذا؟ أم أصبت به في صغري؟ لا أعرف ولا أريد أن أعرف، خشية كُره أمي لو كان لها يدٌ في إعاقتي، خاصةً أنها الوحيدة التي تشملني برعايتها وتكتنفني بعطفها بعدما تخلى عني الجميع، فأبي وقع أسيرًا لتكاليف الحياة وتدابير لقمة العيش، وإخوتي خطفتهم مُتع الدنيا، وبالرغم من رفضهم اصطحابي معهم للتنزّه أو السهر على المقهى، ألتمس لهم الأعذار فمثلي بالتأكيد عبءٌ ثقيلٌ يقيّد حريتهم أمام أصدقائهم.
قطع شريط ذكرياتي صوتُ أمي تشُدّ من أزري وتصبّرني بأنّ الولادة لن تستغرق وقتًا طويلًا، أخفيتُ دموعي عنها كما كانت تفعل – ورثتُ عنها تلك العادة – فكثيرًا ما كنتُ أرى الدموع حبيسةً في عيونها، كلما رأت الأطفال يمرحون في الأعياد وأنا بجوارها – لا حول لي ولا قوة – قعيدٌ على كرسي متحرك.
كنت أسمع صدى وقوع دموعها على قلبي المجروح فتزيده اشتعالًا، حينها أقسمتُ ألّا أُظهر ضعفي أبدًا لأحدٍ حتى أقرب الناس، فنظرات السخرية والازدراء من الناس ومبالاتهم بوجودي، أهون عندي من نظرات الشفقة والعطف.
انصرفت أمي وعدتُ إلى جراحي التي لم تلتئم، لأجد نفسي تخطّيتُ مراحل كثيرة إلى أن كبرتُ وعوضني ربي بذراعين مفتولين، فاستبدلتُ الكرسي المتحرك بعكازين حفظًا لماء وجهي عند التّقدم للزواج.
خطبتُ وتزوجتُ ولم أخبر أحدًا عمّا بداخلي من آلام وأحزان دفينة، ولكن فاض بي الكيل ولم أستطع التّحمل أكثر، فما هي إلا دقائق معدودة ويتحدد مصير مولودي، الذي أتمناه أفضل من مصيري، لعل القدر يهبه مساحةً أوسعَ من مساحتي الضيقة التي سجنني فيها الكرسي المتحرك، لكي يجري ويمرح كباقي رفاقه، فكم من مرةٍ بِتُ ليلتي باكيًا دموعي تنساب على وجنتي كلّما أعلنت المدرسة عن حفلة ومسابقة للجري! وكم من مرةٍ اشتهيتُ اللعب ومنعتني إعاقتي!
كل تلك الأفكار خرجت من مكنونها في صدري وظلّت أمام عيني حتى خرج الطبيب من حجرة العمليات، هرول الجميع منطلقين نحوه، ولم يستطع عكازي المنافسة في سباق الأرجل نحو زوجتي بعد الاطمئنان عليها من الطبيب.
كانت أمي أول المُلتفّين نحوي لتبشّرني ويعلو وجهها إبتسامةٌ جميلةٌ لم أرَ مثلها من قبل، احتضنتني قائلةً: ولد… ولد… إنه يشبهك تمامًا… مبرووووك ياحبيبي… يتربى في عزك.
وقعت كلماتُها على أُذني وقع الشك والريبة، فماذا تقصد أمي “يشبهك تمامًا”؟ هل تقصد يشبهني في ملامح وجهي؟ أم يشبهني في إعاقتي؟!
اقتربتُ من سرير زوجتي وضربات قلبي تعلو على صوت عكازي، مددتُ يدي أكثر فأكثر من وليدي، كشفتُ الغطاء عن رجليه ببطءٍ شديدٍ، وخزته برفقٍ متمنيًا أن أرى رجليه تتحرك، انتظرت… لا تجاوب…. لاحركة…، وبيدين مرتعشتين وخزته مرة أخرى مُمسكًا قلبي قبل أن يتوقف من شدة الوَجل، وكانت المفاجأة …..