القصة القصيرة

الليل في وضع الانبطاح

حقبة زمنية مرّت وعلاقتي بالليل يشوبها الحذر ،أحسّهُ كرجل أخرس لا أعرف نواياه ، اغتالني أكثر من مرة، كل آلامي تطفو حالما تسحب الشمس آخر إشعاعاتها الخافتة وتعلن انتهاء يوم ، وجع الأسنان ، ألأرق ، التهاب المفاصل والفقرات ..، ذاكرتي تدينه بالكثير .
عندما كنت جنديا كانت نوبات حراستي في ذروة الليل بين الساعة الواحدة والرابعة تحت جبل أرعن كأنه يركب فوقك حتى لا يرى المرء كفه ، الأرض تغوص في قعر لا قرار له ولم تترك غير موطيء قدم يكاد يكفي لقدميّ ، لساعات خلت ْكان فضاء وفجوة كبيرة اسمّيها السماء ابتلعت نجومها هي الأخرى وغابت ، غرزت ُ أصابعي بعيني ولم أرها ، حذرني العريف : من سفح الجبل تنزل الدببة وتأخذ الجندي إلى غار معتم وتلحس رجليه وتتزوجه ولا تدعه يغادر جحره أبدا ، بينما قال لي الضابط – انتبه ياولد- من سفح الجبل يتسلل مهربون وقطاع طرق ويذبحون الحرس.
اللصوص، الهجومات ، الفعاليات العسكرية ، الدوريات القتالية ، الكمائن ، كلها تنّفذ في الليل فأية علاقة تربطني به بعد ، وهل ترك الليل شيئا للغزل والأمنيات .
سمعتُ طقطقة حجارة تنزل من الجبل بما يشبه الصعق تترك صدى ًموجعا ً، لا اميّز اتجاهها بالضبط ولا أقدّر المسافة – لازال عالقا في ذهني رهان الصبيان عندما يقفون طرف المدينة ويعلن احدهم ، من يدق وتدا ً وسط المقبرة ؟! فأنسلّ بينهم بهدوء وأنصرف ، أتذكر ذلك جيدا ، أدخل الزقاق ، أقدامي تلامس حافة الرصيف، أعرف أن في طريقي حفرة ، قبل الوصول إليها بقليل أنحرف يمينا أو شمالا ، أسمع البعض يقول سبحان الله كيف عرف هذه حفرة ، استمر في السير ، أميّز أصوات الرجال وإن كانوا يتهامسون فأسلم عليهم ، وإذا سألني أحدهم كيف حالك ، فأرد عليه في الحال – الله يخليك أبو فلان – وأواصل السير ، أعرف مواقع المحلات واحدا ً واحدا ، أحيانا يسألني البعض أين يقع بيت فلان فأصف لهم: ليس في هذا الزقاق ولا الثاني ، في الثالث ، تنعطف إلى اليمين ، الثالث من اليسار .
كلاب الجيران أعرفها من نباحها وتعرفني ، أبصر موقع الجرس المعلق، بحذر على باب داري أضغط عليه ، أدخل الباب / مدخل الباب من ثلاث سلالم ، اجتازها وأدخل باحة المنزل ثم أعرّج على غرفتي ، أبصر ملابسي ، هنا علقت ثوبي الأبيض ، وهناك سروالي معلق في المسمار ، لم أخطيء يوما وأدخل الحمام بدلا من المرحاض والذي لا يبعد احدهما عن الآخر أكثر من نصف متر ، كما لاأخطيء في معرفة أنواع العملات الو رقية ، سقطت حجارة أخرى قبل أن أنهي تمريني على العمى الذي قضيت فيه نصف نوبة حراستي تقريبا ، كان صوت تدحرج الحجارة هذه المرة أكثر قسوة ، احسبها قنبلة موقوتة لا أعرف ساعة انفجارها ، في طفولتي كنت أستخدم الحجارة لأغراض الهجوم والدفاع ، أكثر من مرة فتحوا ثغرة في رأسي أو جبهتي وأنا غرستها أكثر من مرة أيضا في رؤوس بضّة لا تحتمل الثلم لذا صار لها دوّي خاص في نفسي .
لماذا أتصور نفسي أعمى ؟ أو أتمرن ذهنيا على العمى ؟ أعيد الآن رؤية كفي دون جدوى ، كيف يتسلل المهربون في هذا الظلام الدامس ؟ حتى لكأن هذا العالم يبدو كقبر واسع يمارس فيه الموتى طقوسهم على مرأى من الأحياء الذين ينظرون أليهم برعب .!
بين فترة وأخرى أعض لساني أو أحك أسناني لأتأكد من وجودي ، هل يتمكنون فعلا من الإمساك بي ؟ كيف يمسكوني ؟ إلا اللهم إذا ما حاولوا مسكي بعيونهم الخاصة جداً ! فأول ما يطوقون رقبتي ثم يضعون خرقة في فمي ويأخذون بندقيتي ، ثم يهجمون على الربيئة الموكل اليّ حراستها .
سئمت الانتظار والعمى، حتى تمنيت لو فعلا ً يمسكني أحد ، أعتقد انه أهون بكثير من أن أتزوج دبّة ! الدببة تستيقظ بمثل هذا الوقت حسبما يشاع بين الجنود ، كيف تكتب الصحافة وتؤيدها البرامج العلمية في التلفزيونات بأن الدببة انقرضت ولا يوجد منها سوى القليل جدا يعيش في الغابات الاستوائية ؟
ثالث حجارة تتدحرج من الجبل لتستقر قريبا مني ، يريدون جس النبض للتأكد من وجودي ، وأنا أحاول أن أصهر نفسي في الظلام ، أخرجت ُ يدي من جيب المعطف الثقيل الذي اكتظ بداخله متدثرا من البرد الذي أعتبره ثالوث الخوف الذي يلسعني بخبث ، رفعت ُ بندقيتي .. ق…ف ، أجاب الصدى برعونة متكسرة قف قف قف قف قف قف ، لا أعرف فيما إذا إختلط مع الصدى صوت آدمي أو أن الرصاص ابتلع صوتي وقذفه في الوادي القريب ، لكن الذي أعرفه أن ثلاث رصاصات انطلقت من بندقيتي ، اصطدم اثنان منها في جدار المرصد المبني من حجر الجبال فتشظّت أحد الصخور الصلدة إلى قطع انغرست في وجهي ، صرخت بأعلى صوتي ، جرحتُ، أعتقد ُ أن الجنود والضابط أناروا المرصد بمصباح صغير كان بحوزة الضابط ..
أفقت بعد ثلاثة أيام في وحدة الميدان الطبية ، وقد استفدت ُ كثيرا من التمرين على العمى وظل الليل يلازمني دون أن يثير أيّما خوف …

السابق
كاتب
التالي
حب أعرج

اترك تعليقاً