القصة القصيرة

من وراء القضبان

حين تعثر به رفيقه الجديد في الزنزانة لم يتحرك قيد أنملة، لم يزد على أن صاح بأعلى صوته ينهره:
“فتَّح يا أعمى”!!
طوال الأسبوعين الماضيين كانت الزنزانة المشيدة لشخصين، تكتظ بعشرة أشخاص، كعلبة سردين منتهية الصلاحية. اعتاد أن يكون وحيدًا لفترات متقطعة، كخيال المآتة تحف به بعض الطيور الجريئة ثم تنفضُّ عنه محلقة، يأتي النزلاء ويرحلون، وهو مقيم في سجنه السرمدي، ليقضي عقوبة المؤبد، في البداية كان قلبه يُعتصر ألمًا كلما أُفرج عن البعض، ويظل مهمومًا يجترُّ ذكرياته بحلوها ومرها، ثم اعتاد الأمر بمرور الزمن، فلم يعد يأبه بمن يأتي منهم ومن يذهب.
لم يكد الحشد الأخير يرحل عنه، حتى تمدد العملاق في الظلام على أرضية الزنزانة، وفرد ذراعيه وقدميه لأقصى اتساعٍ ممكن، ثم تدحرج عدة مرات على جانبيه يمنة ويسرة، ليعيد إلى عضلاته المتيبسة كالخشب، بعض المرونة المفقودة. ومالبث أن راح في سبات عميق، لم يشعر معه بعثرة الوافد الجديد به.
لشد ما كانت دهشته، حين تبين لاحقًا أنَّ رفيقه أعمى حقًّا، فعلى ذبالة عود الثقاب المهرب إليه مع السجائر، رأى زميله يمشي ببطء، رافعًا وجهه لأعلى، مادًّا يديه للأمام يتقي بهما العراقيل. على غير العادة رقَّ له قلبه الغليظ، بعد قليل تعارفا، سرعان ما تآلفا، زادت دهشته أضعافًا حين أخبره الأعمى أنَّ تهمته هي قنص ضابط شرطة!
جال الأعمى في المكان، تحسس الجدران حتى أمسك بقضبان النافذة الحديدية الباردة، وقف يتنفس هواء الليل المنعش في انتشاء غريب، التقطت أذناه على البعد قرآنًا يُتلى بصوت شجي، تخللت القراءة صرخات متقطعة، وقف العملاق بجواره وبدأ يصف له المشهد: في آخر الحارة صوان فخم لميت يبدو أنه من علية القوم، الحضور نفر قليل مبعثرون مُطرقون تدور عليهم القهوة والسجائر، يجلس القارئ على أريكة عريضة وبجواره مساعده، أمامه سماعة رديئة لذا يأتي الصوت خافتًا. تعجب في نفسه: هل بُني السجن قرب البيوت أم زحف العمران إليه؟ لقد سارت به سيارة الترحيلات أيامًا ولياليَ فلم يتبين وجهته ولم يتطوع أحد ليُعلمه بها.
قلب الأعمى نظام الزنزانة، فصارا يسهران الليل يتسامران، ويهجعان في النهار، حمد الله على هذا الرفيق الذي كان له بمثابة العينين، بينما كان العملاق ممتنًّا لهذا الزميل الذي يؤنس وحشته ولا يجرح خلوته. في المساء التالي استيقظا على جلبة شديدة وأصوات ركض وصيحات مبهمة، هرعا إلى النافذة، راح ينظر ويصف لصاحبه الذي ينصت بشغف: إنه السوق الأسبوعي للقرية: هذه بائعة أسماك تجلس وأمامها سمك طازج يتلوى في طست كبير، وهذا تاجر خضروات وفاكهة متنوعة، على البعد تاجر يذود أغنامًا ومواشي، تلك بائعة جبن وزبد وحليب، أطفال يلعبون الكرة، آخرون ينهرونهم ويطردونهم بعيدًا، شرطي يجوس خلال السوق ذهابًا وإيابًا يتهدد ويتوعد ويجبي الإتاوات، رجل يطارد لصًّا غافله، اللص يُفلت بغنيمته والرجل يبوء بحسرته.
على حين بغتة تقتحم الزنزانة فرقة تفتيش، تُصادر النقود وعلب السجائر والثقاب، يُسحب العملاقُ للتأديب ثم يُرمى في زنزانة أخرى، يُلقى بثلة من المساجين الجدد، يُضطر الأعمى للتعايش معهم، متحسرًا على فراق العملاق، يسمع جلبة، يُهرع إلى النافذة في لهفة، يُمسك بالقضبان من جديد، يناشد أحد الوافدين أن يصف له ما يراه، وسط ضحكات القوم الساخرة يُلقي على رأسه القنبلة: النافذة ذات القضبان تطل على جبل صخري أشم ويفصل بينهما هاوية سحيقة!.

السابق
فِلَسْطِينُ
التالي
سياسي

اترك تعليقاً