القصة القصيرة

حكمة قشيشة

دغدغتها نسيمات عليلة فقصدتني تتمسح بحذائي الكبير ، كقطيطة لعوب ،وتبالغ شيئا ما في ذلك ، و تحتمي بباطن حذائي ، تتملقني ، او ربما تتجسس علي ،كنت أراقب ذلك الجرح من الأرض يلفظ الملايين ، من النمل الأسود رافعا مؤخرته السوداء كحبيبة العنب أو ثمرة التوت المشنوقة على الغصين في أعلى الشجرة ، مشمرا على ذراعه ويجر اضعاف وزنه : سيزيف يصعد بصخرته إلى قمة الجبل ، وهو في عجلة من أمره بين الذهاب والإياب ، أنا أمعن النظر،أ كاد أخترق حبل الوريد المتمكن من أعماق الأرض يسيل بجيوش لا متناهبة من النمل في حركة سريعة جدا ، تسير فوق صفحة حديد ملتهب , قالت لي القشيشة :
_ما بالك ، يا أخي ، ماذا تفعل عند هذا الثقب من الأرض . أتريد أن تسحقه بحذائك الثقيل كعادتك ؟! فأنتم البشر ميالون للعبة السحق والتدمير والقتل ! تغارون من كل ما هو جميل !!
مسحت محيط حذائي بنظرات فاحصة وقلت :
-إني أبحث في هذه الحشود عن تلك النملة ،التي كانت تعبر في أحد الأيام بعض المسارب في حقول الذرة ، فصادفت فيل الملك , بدأ يراودها على نفسها ويتحرش بها ويتغزل بجمالها ، لكنها النملة الحرة الأبية : تلقنه درسا في الأدب ،وإن كانت تعرف مسبقا أنه فيل ذلك الملك الطاغية · لقد سبق أن شكا القوم هذا الفيل الذي كان يدمر محاصيلهم الزراعية ويتركهم عرضة للجوع ،إلى مولاه الملك ، فقالوا بلسان واحد حتى لا يموت الفرد بذنب الجماعة :
– يا ملكنا إن فيلكم الكريم !!
– أجابهم :ماباله هذا الفيل ؟!
وخوفا من بطشه ،عجزوا عن إخبار ه بتصرفات هذا الفيل · وعندما ألح عليهم في السؤال، قالوا وجباههم تلتصق بالأرض فرقا :
-فيلكم السعيد يا مولانا فوق رؤوسنا وفي أعيننا لكنه تنقصه فيلة جميلة سنختارها له !!
ومنذ ذلك التاريخ وفيل الملك يغوص في نوبة ضحك هستيرية استهزاء وسخرية من جبن هؤلاء القوم ونفاقهم المقيت . استدعى الملك خيرة الكهنة والعلماء ليعرف سر ضحك فيله معتقدا أنه ربما يكون أصابه مس أو خبل .هم أيضا -خوفا من حد السيف- تداولوا فيما بينهم وأفتوا بالإجماع :
-يا ملكنا :إن فيلكم السعيد ، فقط تنقصه فيلة لكن أجمل من تلك التي سيختارها له الشعب ، فالشعب كما تعرفون يا مولانا عديم الذوق والحس،و لحسن حظه أنه حظي بذوقكم الرفيع ، فاخترتموه ورضيتم به شعبا لكم !!
أريد أن أتملى بطلعة هذه النملة التي كانت أكثر رجولة من رجال الملك وتدينا من كهنته و علما من علمائه و وطنية من شعبه ، و حصل لها شرف تلقين فيل الملك درسا في الأخلاق .وتحدت جبروته وطغيانه في شخص فيله •
أمعنت القشيشة في الاختباء بباطن حذائي خوفا من النسيم وقالت :
-وهل ساعدك الحظ في العثور على هذه النملة البطلة التي نابت عنكم -معشر البشر- في البطولة و في تحدي الخوف ؟!
وأنا أرسم خربشات غريبة بعود يابس أجبتها دون أن ترى ملامحي :
-لا لم يحصل لي شرف لقائها بعد ،كيف سأراها وكل النمل متشابه ،لا فرق بين البطلة وغير البطلة فالكل يتساوى في رفع المؤخرة التوتية السوداء والطمع في اعتصاري وإدخالي في ثقب الأرض ؟! الكل يتساوى في الطموح اللا محدود ، ويختلف في الإرادة وقوة العزيمة • لكن ربما هذه النملة هي التي كان لها شرف إنقاد أعداد مهولة من النمل من دوس أقدام وحوافر ومخالب جيوش نبي الله سليمان ، أو ربما هي التي كانت تغوص في أعماق البحر في جوف ضفدعة لإطعام دودة بحرية عمياء مسكينة في ثقب الصخر فعلا للخير وتنفيدا لما أمرت به !!
-و هل تمكنت من ضبط أعداد النمل الساكن هذا الثقب من الأرض ؟!
-إني كلما أوشك على ضبطه .أفلت زمام الأمور وتختلط علي الألوان والأحجام فأفشل ، فالنمل أشبه بشعب أسيوي أصفر: الكل يتشابه ولا أحد يشبه الآخر .ولو تمكنت من إحصاء النمل، فالطريق سيصبح سالكا معبدا لعد شعيرات البشر ،وأوراق الشجر، وجلاميد الحجر!! وربما حتى اعداد الحيتان في البحر !!
– إيه .!! إيه !!راعي الغنم أذكى منك، مسحة واحدة من طرف عينيه تجعل العدد جاهزا مهما كان الكم كبيرا ، ولماذا كل هذا التعب والعناء؟!
كالديك الرومي ونفشت ريشي وتظاهرت بالعظمة وإن كنت أعرف مجرد زيف وقلت :
– أريد أن أبرهن على أن قدرة البشر عصية على القهر مستعصية عن الهزيمة !!
رمقتني القشيشة بإشفاق وقالت:
– إ علم أنك – يا أخي الإنسان – حتى لو تأتى لك ذلك ، فإن قدرتك لا بد وأن تقهر . فإنك لن تقدر على عد النجوم في السماء !! أو عد الأسماك في البحار والمحيطات !! وحتى لو تمكنت من فعل ذلك فإنك لن تقدر على قهر عدوك الكامن في أعماقك • لا يمكن ان تقهر نفسك الأمارة بالسوء . إن نرجسيتك هي التي توهمك بأن الطريق سالك لفعل أي شيء أو ربما محركك الأساس هو الأنانية !! والله إن ضعفكم -بني البشر- يجعلكم تمسحون خوفكم بلباس اﻷضعف في حلقة الوجود !! وتمسحون خطاياكم في أضعف المخلوقات على وجه الأرض ! الأضعف في الحلقة دائما : قشة لمحرقة حروبكم وصراعاتكم !! تغسلون جرائمكم بدماء الضعفاء منكم !! ألستم أنتم من قال: البقاء للأقوى !! حبذا لو قلتم للأصلح!!
شعرت بضيق في التنفس وأن كرامتي كإنسان تدوسها هذه القشيشة تحت قدميها وتضع عيوبي تحت مجهر الحقيقة وتعريني من رأسي إلى أخمص قدمي وقلت بحنق شديد :
– ومن أنت حتى تكيلين لنا كل هذه التهم ؟! وما أنت إلا قشيشة صغيرة ضعيفة ، لا حول لك ولا قوة . هزة بسيطة من نسيم بارد ،ترميك في السماء السابعة . لمسة بسيطة من حافر حمار تسحقك وتزيلك من الوجود تماما !!
– هذا صحيح لأنكم لا تعرفون إلا لغة السحق والتدمير والقتل ،فالطبع يغلب التطبع !! فأنت تقر بظلمكم -معشر البشر- فإذا كان ماذهبت إليه صحيحا ، فكيف تلصقون بي تهمة أنا بريئة منها براءة الذئب من دم يوسف ؟!
-وما هي هذه التهمة ،يا قشيشة ، يا قاف القنوط و يا شين الشقاء ؟! – ألم تتهموني بأني أنا التي قصمت ظهر بعيركم ؟! أنتم تريدون مسح جرائمكم ببراءتي !!
فكرت مليا فرأيت تساؤلها معقولا وكلامها فيه حكمة فأ جبتها مكرها :
-لكن ، بمجرد ما امتطيت أنت ظهره قصم ، أم لك تفسير آخر ؟!
-إن ظلمكم لا يقتصر علي وحدي كقشيشة (قصمت ظهر البعير) ! وإنما ظلمتم حتى القطرة ، ترون أنها أفاضت الكأس ! فهل يعقل أن تفيض قطرة كأسا؟! أم أنكم تبحثون عن الأسباب لتغطوا عن خطاياكم وتبرروا جرائمكم .!! تدعون الحكمة و حكمتكم هذه : أباحت للذئب افتراس الحمل بدعوى أنه يعكرعليه صفو الماء ، بعد قلب مجرى النهر . عندما تريدون أن تشعلوها حربا ضروسا بينكم تقولون بأن شعيرة واحدة تفصل بين الحرب والسلم بين الحق والباطل بين الخيانة والوفاء .وانتم في قرارة أنفسكم تعرفون حق المعرفة أن الفرق شاسع شساعة ما بين الأرض والسماء ، مابين الظلام والنور ، إنكم تحرفون الحقائق ،لأغراضكم الخاصة وتقيسونها بمقاساتكم!!
أردتم أن تبرروا اعتداء الذئب على العنزة ، فحملتموها المسؤولية ظلما ،اختلقتم قصة لهذه اﻷكذوبة : قلتم : إنها في يوم من الأيام أرادت أن تسخر منه وأن تلقنه درسا ، فتشبهت بكلب وارتدت جلده ، فهاجمته ففر لا يلوي على شيء وهو يعدو كالمسعور وهي تمعن في اللحاق به ، ومن تأثير الفرق : كان يقذف فضلاته غيثا مدرارا ·لكن المسكينة أخطأت تقدير العاقبة فتعثرت في شوك سدرة كبيرة فصاحت من الألم : ماع.!.ماع ! . ماع ! استجمع الذئب قوته و رجع اليها ،استعطفته أن يرحمها فقالت :
-يا عمي الذئب ، تعرف أنك سيد الذئاب ، ولا أحد يجرؤ عليك ،،فأنا فقط كنت أمازحك !! اعتصرالذئب عنقها حتى كادت تختنق وقال لها والشرر يتطاير من عينيه الحمراوين :
-اتعتبرين هذه الفضلات التي تنتشر في كل مكان مزاحا يا بليدة ؟!
فشلت العنزة في إقناعه فانقض عليها ودق عنقها . فكانت هذه القصة البداية الأولى لتفشي العداوة بين فصيلة المخلبيات وفصيلة الظلفيات • إني أشك في صحة ادعائكم !!
وأنا منهمك في رسم خربشاتي ،وكلي إنصات بعقلي وجوارحي لحديث هذه القشيشة الحكيمة . ،هبت ريح قوية اختطفتها من قرب باطن حذائي ، وتلاعبت بها في أعماق السماء وسط ضباب كثيف من القش ، الذي كون عاصفة قشية أشبه بالعاصفة الرملية وضاعت القشيشة بين هذا الزخم من القشيشات المليونية •
اعتصرتني الحسرة وتنهدت عميقا و أنا أعض على أصابعي وأصرخ :
– يا لسوء حظي كنت أبحث عن النملة الشجاعة المتمردة ، فضيعت القشيشة الحكيمة !!.

السابق
شبيهتان
التالي
حبكة

اترك تعليقاً